تنجيم 'وهم زائد أم علم ناقصً؟'

التنجيم 'وهم زائد أم علم ناقصً؟'

 

التنجيم "وهم زائد أم علم ناقصً؟"
رغم مرور آلاف السنوات، لا يزال النقاش محتدماً في أروقة العلماء بين المدافعين عن التنجيم ومنتقديه، فيما يتهافت الجمهور الواقع تحت سلطة التسويق والتسليع على قراءة صفحات «برجك اليوم» والارتهان للتنبؤات.





 بين الاستلاب الغيبي والرفض الراديكالي له، ترسم الفلسفات الشرق آسيوية طريقاً وسطاً يرتكز على مبدأ وحدة الكون ويمدّ الجسور بين الأرض والسماء


كثيراً ما كانت الكهانة وسيلة أساسية للتواصل بين عالم البشر وآلهتهم. هي فن إدراك عالم الغيبيات وتحرّي إرادته لاستنباط القواعد الأساسية التي تحكم أقدار البشر. ومسار الأقدار هو الموضوع الأكثر إلحاحاً على النفس البشرية. من التأمل فيه، ومن الحيرة التي يخلقها، ينبعث القلق الذي يوظّفه البعض لإنتاج إبداعات فنية في الأدب والموسيقى والرسم، بينما يلجأ البعض الآخر إلى المنجمين بحثاً عن أجوبة لتهدئته.
كيف نشأ التنجيم وكيف تطوّر على مدى العصور؟ هل تحوي «الخريطة الفلكية» التي يحدّدها المنجّمون، من خلال معرفة تاريخ ولادة الشخص، أسرار ماضيه وحاضره ومستقبله؟ هل يرتكز التنجيم على منهجية علمية تُكسب ممارسيه صدقية مطلقة؟
هل لو سقط تصنيف التنجيم كعلم أمام صعوبة إيجاد البراهين، تسقط بالتداعي علاقته بالفلسفات الآسيوية كالـ«تاو» الذي يُدرج مصدر أيّ حركة للمادة وللاندفاع الحيوي ضمن التوازن المطّرد لطاقتّي الكون الإيجابية والسلبية اللتين تشملان مجال التّنجيم أيضاً؟
تعدّ الإجابة عن هذه التّساؤلات أكثر من ضرورية في ظلّ تهافت المجتمعات الحديثة على الأخذ بوعود الغيبيّات المسلّعة.


التنجيم عبر التاريخ
لا يرتبط ظهور التنجيم بتاريخ محدّد، بل تختلط نقطة بدايته بالميتولوجيا، لأن أيّ حركة كونية بالنسبة إلى الأقدمين كانت تُنسب إلى الآلهة. وكان وجود البشر وحياتهم يرتكزان على الظواهر الكونية ومنها تغيّر الفصول وعلاقة هذا التغير بحركة الكواكب.
الكلدانيون كانوا روّاداً في هذا المجال. بنوا في بلاد ما بين النهرين مدافن استُخدمت في الوقت ذاته أبراجاً لمراقبة السماء. حتى إن ملوك المجوس الذين جاؤوا إلى بيت لحم ليشهدوا ولادة المسيح، جاؤوها من بلاد ما بين النهرين، وهَدَتهم إلى الطريق، حسب الرواية الإنجيلية، نجمة كانت غالباً اقتراناً ثلاثياً بين المريخ وجوبيتير وزحل.
من بلاد ما بين النهرين، انتشر التنجيم في الإمبراطورية اليونانية بعد فتوح الإسكندر الكبير، ثم في الهند وفي مصر والإمبراطورية الرومانية حيث تطوّر على يد المهندسين فعُمّم بعدما كانت التنبؤات وقفاً على الحكام.
خَلَقَ شيوع التنجيم طبقة من المهرطقين حاربها أباطرة الرومان رغم إدارتهم للحكم بناءً على تنبؤات عرّافيهم.
خلال القرون الوسطى، ساعد صفاء سماء الصحراء العرب على التفوّق في مجال علم الفلك بينما منعت الكنيسة في أوروبا التنجيم، ولم ينجُ من هذا المنع سوى بعض العلماء الكاثوليكيين واليهود الذين ظلوا على تواصل مع المسلمين في إسبانيا.
كان التنجيم حالة ملتبسة خلال المرحلة المسيحية، فرغم منع ممارسته اجتماعياً عام 447 إلا أنه بقي حاضراً في القصور الملكية. ملكة فرنسا كاترين دو ميديسيس احتضنت المنجّم والعرّاف والطبيب نوستراداموس، بينما سُمي الملك لويس الثالث عشر بالـ«عادل» لأنه من مواليد برج الميزان.
إلا أن عصر الأنوار سرعان ما قلب الموازين. فمع اكتشاف حقيقة أن الشمس هي مركز النظام الكوني تهدّم حجر الأساس الذي بُني عليه التنجيم وهو أن الإنسان هو مركز الكون.
هكذا تداعى النظام الموروث عن أرسطو وبطليموس اللذين تحدّثا عن مركزية الأرض أمام الحقائق العلمية الحديثة. تحت ضغط الآباء اليسوعيين، ألغى كولبير تدريس التنجيم في الجامعة عام 1666 كما جرى إلغاء منصب «المنجّم الملكي» في المرحلة ذاتها. وتفرّغ مفكّرو عصر الأنوار لمحاربة التنجيم تحت لواء العلمانية والعقلانية: فسخر منه فولتير ولافونتين، ثم أدّى اكتشاف كواكب جديدة (نبتون عام 1846) إلى القضاء تماماً على موروث القرون الوسطى في هذا المجال، أو على الأقل، إلى «إعادة النظر في القواعد التنجيميّة».
امتدّ خسوف التنجيم، وترافق مع سيادة الفكر الإيجابي (positivisme (Scientifique حتى عام 1913. إلا أن اكتشافات الفيزياء الحديثة أعادته إلى الواجهة: نسبية أينشتاين أظهرت انفلات الواقع من القوانين التجريبية التي تُرفَّع إلى مرتبة عقائد. استعاد التنجيم مكانته في ركاب «البارابسيكولوجيا» (علم ظواهر ما وراء النفس)، واجتهد المهندسون وعلماء النفس والإحصاء، من خلال اعتماد وسائل بحث علمية، للدفاع عنه بينما استمرّ آخرون في محاربته.


علم أم هرطقة؟
يمثّل تهافت الجمهور على تصديق الأبراج، مع ما يستتبعه ذلك من انعكاسات اقتصادية ونفسية سبباً إضافياً لتعزيز الموقف السلبي من هذه الممارسة التي يصفها بعض علماء الاجتماع بـ«خرافة تستند إلى سذاجة البشر». ويرفض بعض العلماء التنجيم لعدم ارتكازه على أساس عقلاني أو على براهين تجريبية لأن نتائجه غير قابلة للتعميم.
أمّا المنجمون، فقد عجزوا عن برهنة العلاقة بين السبب والنتيجة: (غالباً ما تكون التنبؤات وليدة الصدفة) كما غاب السبب عن تبريراتهم (ليس هناك آلية تبرّر تأثير الكواكب على أقدار البشر).
فالتنجيم قد يتوصّل إلى الإجابة عن سؤال «لماذا؟» لكنه يعجز أمام الـ«كيف؟».
على هذه الحجة، يجيب المدافعون عن التنجيم بأن ظواهر الطبيعة موجودة حتى لو عجز العلم عن تفسيرها، وهو قد يتوصل لاحقاً إلى ذلك، ويطرحون قضية الجاذبية مثالاً. فمنذ بدء الحياة والبشر «يعيشون» قانون الجاذبية في تفاصيل حياتهم، إلا أنه لم يُفسّر علمياً إلا في القرن السابع عشر على يد نيوتن. فلماذا نمنع عن التنجيم حقه في أن يكون «واقعاً فيزيائياً» فقط لأنه لم يتم التوصل إلى شرحه بعد؟
وفي إطار دفاعهم هذا، يلحقون التنجيم بالعلوم الإنسانية، فيعتمدون على أدواتها وقواعدها من أجل إثبات صحة ما يؤمنون به: فيقومون بتجارب علمية وعملية كالإحصاءات ورصد مفاعيل منتظمة للظواهر من دون تحديد أسبابها.
يساعدهم على ذلك تيار علماء النفس المدافعين عن التنجيم من خلال اعتناق نظريات كارل غوستاف يونغ المدافعة عن التوافق الزمني والتي طرحها عام 1952 في كتابه «التزامن كمبدأ للعلاقات غير السببية». في هذا الكتاب، يبرّر يونغ التنجيم في إطار المساحة الشاسعة بين الطبيعة والروح. إذ يتزامن أحياناً، في مكان وزمن واحد، حدثان لا تجمعهما علاقة مادية لكنهما يملكان «معنى نفسياً واحداً». يمثّل ذلك أحد تجليات العلاقة بين الطبيعة وظواهر اللاوعي، وذلك ما يتيح للمنجم التنبؤ، من خلال آلية شبيهة بالتخاطر. في ذلك، ينضم يونغ إلى آخرين مثل بلوتين وليبنيز وكيبلر، الذين تطرّقوا الى ذلك العالم الخفي الذي يقع خارج حدود الزمان والمكان وداخلهما معاً، لتفسير تنبؤات المنجمين.
يتعارض التنجيم مع العلوم الدقيقة التي تكتفي بوصف التنظيم الفيزيائي للعالم المادي، إلا أنه، على عكسها، يجرؤ على التطرّق إلى المسائل الأساسية كالبحث في سبب الوجود. ففيما تأمّل الدين في عالم مغلق، ساكن ومنقطع عن الواقع، تطرّفت العلوم الدقيقة في ماديتها. فأصبح التخفيف من القلق الوجودي والميتافيزيقي رهن اعتناق إيديولوجيات مستلبة أو الغرق في وهم الجنة المصطنعة.
وحيث إن الأديان تتجرّد عن الماديات فيما يفتقر العلم إلى الروح، يقتضي إيجاد تسوية بين المادي والروحي. وقد حققت الفلسفات الشرق آسيوية هذه التسوية من خلال طرح فكرة وحدة الكون وانسجامه.


أحد تجليات التاو؟
كوّن البوليتكنيكي والكاتب الفرنسي ريمون أبيليو (1907- 1986) في أعماله مفهوماً فلسفياً عن التنجيم يجعل منه «صورة جدلية عن النظام الكوني». فهو يتخطى دراسة العلاقة بين الإنسان والسماء، ليبدو أداة لمعرفة الذات والسيطرة عليها من خلال نظرة تصاعدية لا تفصل الكائن عن مستقبله بل تساعده على تحقيق «الوعي الكامل».
يلتقي مفهوم أبيليو مع الفلسفات الهندية والصينية التي سبقته بعصور في استحضار الحكمة الكونية.
يقول الكاتب التاوي كوان تسي «إن التاو الذي يتجلّى شمساً في السماء، يتجلّى أيضاً في قلب الإنسان. هو القوة الحيوية التي تكسب الكائن وجوده. على الأرض ينتج أنواع الحبوب الخمسة، وفي السماء ينظّم سير الكواكب».
يدخل التنجيم في هذه الفلسفات ضمن سياق تكوين رؤية متكاملة عن الكون، عن طريق بذل مجهود لفهمه أو بالأحرى لإدراك طريقة سيره ومصير البشر المرمييّن عن طريقة الصدفة أو الضرورة في عالم فوضويته منظّمة وغامضة. فكلّ شيء في الطبيعة يتواطأ لينسجم كل مظهر من مظاهر الخلق مع ما يحيطه وتتحقق معجزة الوحدة.
يقوم الفكر الصيني على النظر إلى الحياة والإنسان والوجود بأكملها، على أنها نتاج حركة قوتين ساريتين في كل مظاهر الوجود، هما اليانغ والين، أي الموجب والسالب. هاتان القوتان، على تعارضهما، متعاونتان، ولا قيام لإحداهما في معزل عن الأخرى، ولا صراع بينهما من أجل سيادة واحدة على الأخرى أو إلغائها. تعاونهما يحقق توازناً في الطاقات الكونية الإيجابية والسلبية. وتحكم دينامية الطاقة الكونية جميع مظاهر الحياة لتكون حلقة الوصل بين الشيء وصورته، بين الفكرة وتجلياتها، وبين الأرض والسماء. فما يجري على الأرض ليس، حسب المفهوم التاوي، سوى تمثيل لصورة أو فكرة في العالم غير المرئي، هو نسخة لاحقة زمنياً عن أمر جرى في مستوى يقع فوق إدراكنا الحسي.
بهذه الطريقة، يغدو الإنسان مرتبطاً بالسماء التي تحوي عالم الأفكار فوق الحسي وبالأرض التي تؤلّف عالم المادة الحسي ليشكل معهما مثلث قوة تحكم الطاقة وتعاون القوتين (الين واليانغ) توازنه. وقد عبّر أبو قراط عن التّصور ذاته حين كتب: «ليس هناك سوى تيار واحد ونَفَس واحد. كلّ الأشياء منسجمة. الكائن العضوي الكامل، وكل جزء فيه، يعمل لتحقيق مصير واحد».



خير الأمور أوسطها
هناك من العلماء من سلك طريقاً وسطاً بين جميع هذه المواقف، الرافضة أو المدافعة عن التنجيم. بطليموس لم يرفض علاقة البشر بالكواكب لكنه رفض ما تؤول إليه من اعتناق لمذهب الحتمية ومن استبعاد لحرية الاختيار والإرادة، إذ إن نظرية التنجيم تهدّد مفهوم المسؤولية الفردية للإنسان عن تصرفاته. لذلك أكد أن «الكواكب تغوي لكنها لا تجبر».
في الإطار ذاته، تتجه معظم القوانين الوضعية في العالم إلى محاسبة الأفعال لا الأفكار إذ إنها لا تمنع الاعتقاد بالتنجيم بل تعاقب المنجمين الذين تتسبب ممارساتهم باضطرابات اجتماعية. المعتقدات هي مسؤولية أصحابها، لكن المسافة النقدية بدل الغوص في دوّامات التسطيح والتسويق يمثّلان الحصانة الأهم لاتخاذ موقف معتدل من فقرة «برجك اليوم».


 
Bouton "J'aime" de Facebook
 
 
Aujourd'hui sont déjà 13 visiteurs (14 hits) soyez l bien venu
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement